مختارات من علوم القرآن الكريم
> الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن
محمدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه
ومن سار على طريقته وانتهج نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فما يزال حديثنا متصلاً حول فضائل سورة «آل عمران» ولطائفها، فنقول وبالله
تعالى التوفيق:
المراد بالراسخين في العلم
والمراد بالراسخين في العلم: الذين تمكنوا في علم الكتاب، ومعرفة محامله، وقام
عندهم من الأدلة ما أرشدهم إلى مراد الله تعالى، بحيث لا تروج عليهم الشبه.
والرسوخ في كلام العرب: الثبات والتمكن في المكان، يقال: رسخت القدم ترسخ
رسوخًا إذا ثبتت عند المشي ولم تتزلزل، واستعير الرسوخ لكمال العقل والعلم بحيث
لا تضلله الشبه، ولا تتطرق إليه الأخطاء غالبًا، وشاعت هذه الاستعارة حتى صارت
كالحقيقة.
فالراسخون في العلم: الثابتون فيه العارفون بدقائقه، فهم يحسنون مواقع التأويل
ويعلمونه.
والله سبحانه وتعالى أثبت للراسخين في العلم فضيلة، ووصفهم بالرسوخ، فآذن بأن
لهم مزية في فهم المتشابه، لأن المحكم يستوي في علمه جميع من يفهم الكلام، وحكى
إمام الحرمين عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في هذه الآية: «أنا ممن يعلم
تأويله».
والراسخون في العلم يعلمون أن الذي يكون من عند الله لا يكون فيه تناقص، لقوله
تعالى: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا.
من فوائد الآية الكريمة ولطائفها
1- أن هذا القرآن كلام الله، لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ، ولا يَرِدُ مثل قوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ
بَأْسٌ شَدِيدٌ (الحديد: 25)، وقوله: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
(الأنعام: 99)، لأن الكلام صفة لا تقوم بذاتها، لا تقوم إلا بمتكلم، بخلاف
الحديد والماء فإنهما عين قائمة بنفسها، فتكون مخلوقة، وأما القرآن فليس
بمخلوق، لأنه صفة الخالق عز وجل، والمخلوق شيء بائن عن الخالق منفصل عنه.
2- إثبات علو الله عز وجل، لقوله: أَنْزَلَ، والإنزال لا يكون إلا من أعلى
إلى أسفل، فإذا كان القرآن كلامه ونزل فالله تعاللى فوق، وهو كذلك، ومذهب أهل
السنة والجماعة بل مذهب الرسل كلهم أن الله تعالى فوق كل شيء، ألم تروا إلى
فرعون قال: يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ
(36) أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى (غافر: 36-
37)، وهذا يدل على أن موسى قال له: إن الله فوق.
فالعلو لله عز وجل ثابت بخمسة أنواع من الأدلة: الكتاب والسنة والإجماع والعقل
والفطرة.
أمـــــا الـكــتــــاب
فأدلته أكثر من أن تحصى، أدلة متنوعة تارة بذكر العلو نحو قوله: سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الأَعْلَى (الأعلى: 1).
وتارة بذكر الفوقية: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا
يُؤْمَرُونَ (النحل: 50).
وتارة بنزول الأشياء نحو قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ (الأنعام: 99).
وتارة بصعود الأشياء: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ (فاطر: 10).
وتارة بذكر كونه في السماء كما في آيتي سورة الملك: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي
السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ، أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي
السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا (الملك: 16، 17).
وأمــــــا الــســنــة
فمتواترة في علو الله، ومتنوعة، فتارة بقول الرسول، وتارة بفعله، وتارة
بإقراره.
أما قوله: فكان يقول في كل صلاة: «سبحان ربي الأعلى». (رواه مسلم كتاب صلاة
المسافرين).
وأما فعله: فقد أشار إلى السماء غير مرة، يشير إلى السماء في الدعاء، يرفع يديه
إلى السماء. (أخرجه البخاري، كتاب الفتن).
وأشار إلى السماء حين أشهد ربه على أمته أنهم أقروا بإبلاغه الرسالة في حجة
الوداع في يوم عرفة. (أخرجه مسلم كتاب الحج). في أكبر مجمع للمسلمين في عهد
الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما إقراره: فسأل الجارية: «أين الله؟» قالت: في السماء. قال: «اعتقها فإنها
مؤمنة». (قصة الجارية أخرجها مسلم، كتاب المساجد).
وأمــــا الإجـمــــــــــــاع
فقد أجمع السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى بعدهم على أن الله تعالى فوق
كل شيء، ولم يُنقل عن واحد منهم أنه قال: إن الله في كل مكان، ولا أنه قال: إن
الله لا يوصف بأنه فوق العالم ولا تحته، ولا داخله ولا خارجه، ولا متصل ولا
منفصل.
وأما العقل:
فإننا لو سألنا أي إنسان: ماذا تقول في العلو ؟ أهو صفة كمال أو نقص ؟ لقال: هو
صفة كمال، والعقل يقول: كل صفة كمال فهي ثابتة لله عز وجل، فيثبت العلو لله
بدلالة العقل من هذه الناحية.
وأمـــــا الفــطـــرة
فحدث ولا حرج، الإنسان الذي لم يتعلم ولا يدري عن كلام العلماء في هذا إذا سأل
الله يرفع يديه إلى السماء، وما رأينا أحدًا لما أراد أن يدعو ركز يديه إلى
الأرض، ولا ذهب يمينًا ولا يسارًا، بل يرفعهما إلى السماء، ولهذا استدل أبو
العلاء الهمداني على أبي المعالي الجويني بهذا الدليل الفطري حتى إن الجويني لم
يتمالك أن صرخ وضرب على رأسه وقال: حيرني، لأن أبا المعالي الجويني رحمه الله
كان يحدث الناس، ويقول: كان الله ولا شيء، وهذا صحيح، لأن الله هو الأول الذي
ليس قبله شيء، ويقول: وهو الآن على ما كان عليه!!
وهذه الكلمة موهمة. يعني: غير مستوٍ على العرش، لأن العرش لم يكن وقد كان الله
ولا شيء، وهو الآن على ما كان عليه، إذن فلم يستو على العرش. فقال أبو العلاء
الهمذاني: يا أستاذ، دعنا من ذكر العرش، لأن الاستواء على العرش دليله غير عقلي
بل دليله سمعي، فلولا أن الله أخبرنا أنه استوى على العرش ما علمنا ذلك، أخبرنا
عن هذه الضرورة التي نجدها في نفوسنا، ما قال عارف قط: يا الله، إلا وجد من
قلبه ضرورة بطلب العلو.
فصرخ أبو المعالي، وضرب على رأسه، وقال: حيرني!! لأنه لا يجد جوابًا عن هذه
الفطرة.
فعلو الله- ولله الحمد - دلَّ عليه الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة.
3- أنه لا يتذكر بهذا القرآن ولا بغيره إلا أصحاب العقول لقوله تعالى: وَمَا
يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ.
4- أنه كلما ازداد الإنسان عقلاً ازداد تذكرًا بكلام الله عز وجل، وكلما نقص
تذكره بالقرآن دلَّ على نقص عقله، لأنه إذا كان الله حصر التذكر بأولي الألباب،
فإنه يقتضي انتفاء هذا التذكر عمَّن ليس عنده لبُّ.
5- أن العقل غير الذكاء ؛ لأننا نجد كثيرًا من الناس أذكياء، ولكن لا يتذكرون
بالقرآن، وهؤلاء لا نسميهم عقلاء، لكن الذي انتفى عنهم من العقل هو عقل التصرف
والرشد، أما الإدراك فهم يدركون، ولهذا تقوم عليهم الحجة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.