قصة خروج الريح من الصحابي الذي لم يحرجه النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
نواصل في هذا التحذير تقديم البحوث العلمية الحديثية للقارئ الكريم حتى يقف على
حقيقة هذه القصة التي اشتهرت على ألسنة الخطباء والوعاظ والقصاص، واشتهرت عند
العوام ويستدلون بها على عدم إحراج النبي صلى الله عليه وسلم الناس، وأنه كان
يراعي مشاعرهم، وعلى مثل هذا وضع الوضاعون قصة كان لها أثرها السيئ جدًا في
الذين يروونها فإنها تصرفهم عن العمل بأمر النبي لكل من أكل من لحم الإبل أن
يتوضأ، وإلى القارئ الكريم التخريج والتحقيق.
أولاً: متن القصة:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فوجد ريحًا فقال: «ليقم
صاحب الريح فليتوضأ». فاستحيى الرجل أن يقوم، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «ليقم صاحب هذا الريح فليتوضأ فإن الله لا يستحي من الحق». فقال العباس
بن عبد المطلب: يا رسول الله، أفلا نقوم كلنا نتوضأ؟ فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «قوموا كلكم فتوضأوا».
ثانيًا: التخريج:
أخرج الحديث الذي جاءت به هذه القصة ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (17/360/2) من
طريق يحيى بن عبد الله البابلي، حدثنا الأوزاعي، حدثني واصل بن أبي جميل عن
مجاهد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فوجد ريحًا.
القصة.
وعبد الرزاق في «المصنف» (1/140) (ح531) عن الأوزاعي به، وأبو عبيد في «الطهور»
(ح400) حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي به.
ثالثًا: التحقيق:
القصة واهية والحديث الذي جاءت فيه ضعيف جدًا، وفيه علل:
الأولى: الإرسال: والمرسل: هو ما بعد تابع سقط.
حيث إن مجاهدًا الذي رفع القصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو مجاهد بن جبر.
قال الحافظ ابن حجر في «التقريب» (2/229): مجاهد بن جبر من الثالثة. أهـ
والطبقة الثالثة بيّن الحافظ ابن حجر في مقدمة التقريب أنها: «الطبقة الوسطى من
التابعين».
ومما قدمنا يتبين أن هناك سقطًا في الإسناد من بعد التابعي مجاهد بن جبر.
الثانية: واصل بن أبي جميل.
1- أورده الإمام الذهبي في «الميزان» (4/328/9322) وقال: «واصل بن أبي جميل، عن
مجاهد قال يحيى بن معين: لا شيء، وقال البخاري: يروي عن مجاهد، ومكحول، روى عنه
الأوزاعي أحاديث مرسلة». اهـ.
2- قال الإمام البخاري في «التاريخ الكبير» (4/2/173) رقم (2596): «واصل بن أبي
جميل أبو بكر عن مجاهد ومكحول روى عنه الأوزاعي، أحاديث مرسلة». اهـ.
3- قال الإمام ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (4/2/30) رقم (135): «ذكره أبي
عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال: واصل بن أبي جميل لا شيء».
وبهذا يتبين شدة الضعف من سقط في الإسناد وطعن في الراوي حتى قال عنه الشيخ
الألباني - رحمه الله - في «الضعيفة» (3/267) ح(1132): «باطل».
ثم قال بعد عزوه لابن عساكر فقط: قلت: وهذا سند ضعيف مسلسل بالعلل: الإرسال من
مجاهد وهو ابن جبر، وضعف واصل بن أبي جميل، والبابلي.
رابعًا: نكارة المتن ووضع الوضاعين قصة على مثاله.
ثم بين - رحمه الله - النكارة التي في متنها فقال:
«ويشبه هذا الحديث ما يتداوله كثير من العامة، وبعض أشباههم من الخاصة زعموا أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب ذات يوم، فخرج من أحدهم ريح فاستحيى أن يقوم
من بين الناس، وكان قد أكل لحم جزور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سترًا
عليه: «من أكل لحم جزور فليتوضأ»، فقام جماعة كانوا أكلوا من لحمه فتوضأوا.
اهـ.
2- وهذه القصة وضعت على مثال القصة الأخرى في فترة ما بعد ابن الجوزي فما فوقه
حيث إنها لم تذكر في كتب الموضوعات ولا الأصول، لذا قال الشيخ الألباني رحمه
الله: «وهذه القصة مع أنه لا أصل لها في شيء من كتب السنة ولا في غيرها من كتب
الفقه والتفسير فيما علمت، فإن أثرها سيئ جدًا في الذين يروونها فإنها تصرفهم
عن العمل بأمر النبي صلى الله عليه وسلم كل من أكل من لحم الإبل أن يتوضأ كما
ثبت في «صحيح مسلم» وغيره: قالوا: يا رسول الله، أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال:
لا، قالوا: أفنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: توضأوا.
3- ثم قال: «فهم يدفعون هذا الأمر الصحيح الصريح بأنه إنما كان سترًا على ذلك
الرجل لا تشريعًا».
4- كيف يعقل هؤلاء مثل هذه القصة ويؤمنون بها، مع بعدها عن العقل السليم والشرع
القويم؟
5- فإنه مما لا يليق به صلى الله عليه وسلم أن يأمر بأمر لعلة زمنية، ثم لا
يبين للناس تلك العلة، حتى يصير الأمر شريعة أبدية، كما وقع في هذا الأمر، فقد
عمل به جماهير من أئمة الحديث والفقه، فلو أنه صلى الله عليه وسلم كان أمر به
لتلك العلة المزعومة- في القصة التي لا أصل لها - لبينها أتم البيان حتى لا يضل
هؤلاء الجماهير باتباعهم للأمر المطلق.
6- ولكن قبح الله الوضاعين في كل عصر وكل مصر، فإنهم من أعظم الأسباب التي
أبعدت كثيرًا من المسلمين عن العمل بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
7- ورضي الله عن الجماهير العاملين بهذا الأمر الكريم، ووفق الآخرين للاقتداء
بهم في ذلك وفي اتباع كل سنة صحيحة، والله ولي التوفيق». انتهى.
خامسًا: الوضوء من لحوم الإبل:
إن كثيرًا من الناس تأثروا بهذه القصة الواهية ولا يدرون أنها قصة لا أصل لها
فظنوا أن الوضوء من لحم الإبل إنما كان سترًا على ذلك الرجل لا تشريعًا.
فانظر كيف أثرت هذه القصة الواهية في إبعاد كثير من المسلمين عن العمل بسنة
نبيهم صلى الله عليه وسلم التي بينها الإمام مسلم في «صحيحه» (ح360) حيث قال:
حدثنا أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري، حدثنا أبو عوانة، عن عثمان بن عبد الله
بن موهب، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله
عليه وسلم أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: «إن شئت، فَتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ» قال:
أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: «نعم فَتَوضأ من لحوم الإبل»، قال أصلي في مرابض
الغنم؟ قال: «نعم». قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: «لا».
الحديث: صحيح أخرجه مسلم كما بينا آنفًا وأحمد (ح20837، 20963، 21029)، وابن
ماجه (ح495)، وابن حبان (ح1124، 1125، 1126، 1154، 1156)، وابن الجارود (ح25)،
والطبراني في «الكبير» (ح1859، 1861، 1862، 1864، 1865، 1866، 1867)، وابن أبي
شيبة (1/46/47)، والبيهقي (1/158).
1- قال الإمام النووي (3/160):
أ- «وذهب إلى انتقاض الوضوء به - يعني أكل لحم الجزور- أحمد بن حنبل، واختاره
الحافظ أبو بكر البيهقي، وحكي عن أصحاب الحديث مطلقًا، وحكي عن جماعة من
الصحابة رضي الله عنهم أجمعين».
ب- واحتج هؤلاء بحديث الباب وقوله صلى الله عليه وسلم: «نعم فتوضأ من لحوم
الإبل». وعن البراء بن عازب قال: «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من
لحوم الإبل فأمر به».
جـ- قال أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وإسحاق بن راهويه: «صح عن النبي صلى
الله عليه وسلم في هذا حديثان: حديث جابر - يعني: جابر بن سمرة، وحديث البراء،
وهذا المذهب أقوى دليلا».
د- وقد أجيب عن هذا الحديث بحديث جابر - يعني جابر بن عبد الله-: «كان آخر
الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار».
- أخرجه أبو داود (ح192)، وابن حبان (1134)، وابن خزيمة (43)، والنسائي (185)،
وابن الجارود (24)، والبيهقي (1/155، 156)، وإسناده صحيح.
هـ- ولكن هذا الحديث - حديث جابر بن عبد الله - عام، وحديث الوضوء من لحوم
الإبل خاص - حديث جابر بن سمرة وحديث البراء - والخاص مقدم على العام». انتهى.
2- قال ابن قدامة في «المغني» المسألة (48): «وأكل لحم الجزور» وجملة ذلك أن
أكل لحم الإبل ينقض الوضوء على كل نيئًا ومطبوخًا، عالمًا كان أو جاهلاً، وبهذا
قال جابر بن سمرة، ومحمد بن إسحاق، وأبو خيثمة، ويحيى بن يحيى، وابن المنذر،
وهو أحد قولي الشافعي، قال الخطابي: «ذهب إلى هذا عامة أصحاب الحديث». اهـ.
3- وفي «مسائل الإمام أحمد» رواية أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني مسألة
(108): «الوضوء من لحوم الإبل». قال: سمعت أحمد قيل له: «يتوضأ من لحوم الإبل؟
قال: نعم».
4- قال الإمام البيهقي في «السنن الكبرى» (1/159): أخبرنا أبو الحسن بن أبي
المعروف المهرجاني، أخبرنا أبو سهل أحمد بن محمد بن حبان الرازي، حدثنا محمد بن
أيوب، أخبرنا مسدد، حدثنا حفص بن غياث، عن عمران بن سليم عن أبي جعفر قال: «أتى
ابن مسعود بقصعة من الكبد والسنام ولحم الجزور فأكل ولم يتوضأ».
قال الإمام البيهقي: وهذا منقطع وموقوف.
قلت: وكان هذا الأثر آخر ما أورده في باب «التوضي من لحوم الإبل» من الأحاديث
والآثار ثم قال في ختام هذا الباب: «وبمثل هذا لا يترك ما ثبت عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم».
5- أورد الإمام الصنعاني في «سبل السلام شرح بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام»
(1/107) حديث جابر بن سَمرة وعزاه لمسلم.
أ- قال: وروى نحوه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وغيرهم من حديث البراء بن
عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «توضؤوا من لحوم الإبل ولا توضؤوا
من لحوم الغنم».
ب- ثم نقل عن ابن خزيمة أنه قال: «لم أر خلافًا بين علماء الحديث أن هذا الخبر
صحيح من جهة النقل لعدالة ناقليه».
ج- ثم قال: والحديثان دليلان على نقض لحوم الإبل للوضوء، وأن من أكلها انتقض
وضوؤه وقال بهذا أحمد، وإسحاق، وابن المنذر، وابن خزيمة.
واختاره البيهقي وحكاه عن أصحاب الحديث مطلقًا، وحكي عن الشافعي أنه قال: إن صح
الحديث في لحوم الإبل قلت به، قال البيهقي: «قد صح فيه حديثان: حديث جابر،
وحديث البراء».
د- ثم نقل رد الإمام النووي على من ادعى نسخ هذين الحديثين بحديث جابر بن عبد
الله «إنه كان آخر الأمرين منه صلى الله عليه وسلم عدم الوضوء مما مست النار».
قال النووي: «دعوى النسخ باطلة؛ لأن هذا الأخير عام وذلك خاص والخاص مقدم على
العام».
سادسًا: قصة أخرى في خروج الريح من إنسان لم يحرجه عمر رضي الله عنه:
1- المتن:
رُوي عن جرير بن عبد الله البجلي: «أن عمر رضي الله عنه صلى بالناس فخرج من
إنسان شيء فقال: عزمت على صاحب هذه إلاَّ توضأ، وأعاد صلاته، فقال جرير: أو
تعزم على كل من سمعها أن يتوضأ وأن يعيد الصلاة ؟ قال: نِعما. قلت: جزاك الله
خيرًا، فأمرهم بذلك». اهـ.
2- التخريج:
أخرج الأثر الذي جاءت به هذه القصة الإمام الطبراني في «المعجم الكبير» (2/292)
(ح2213) قال: «حدثنا معاذ بن المثنى، حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن مجالد، حدثنا
عامر عن جرير أن عمر رضي الله عنه صلى بالناس». القصة.
3- التحقيق:
قلت: القصة واهية والأثر الذي جاءت به هذه القصة لا يصح وعلته مجالد وهو ابن
سعيد بن عمير.
أورده ابن حجر في «تهذيب التهذيب» (10/37) ونقل أقوال أئمة الجرح والتعديل فيه:
أ- قال أبو طالب عن أحمد: «ليس بشيء».
ب- وقال الدوري عن ابن معين: «لا يحتج بحديثه».
جـ- وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: «ضعيف واهي الحديث».
د- وقال ابن أبي حاتم سئل أبي يحتج بمجالد؟ قال: «لا».
هـ- وقال الدارقطني: «مجالد لا يعتبر به».
و- وقال ابن سعد: «كان ضعيفًا في الحديث».
ز- وقال ابن حبان: «لا يجوز الاحتجاج به».
قلت: لذا لم يرو له مسلم احتجاجًا ولكن روى له متابعة لذا قال الحافظ ابن حجر
في «تهذيب التهذيب» (10/37): «حديثه عند مسلم مقرون». اهـ. حتى لا يغتر من لا
دراية له بعلم الرجال ويقول: روى له مسلم.
وقال الحافظ في «التقريب» (2/229): «ليس بالقوي وقد تغير في آخر عمره».
ونقل عن البخاري في «تهذيب التهذيب» (10/37) أنه قال: «كان يحيى بن سعيد يضعفه،
وكان ابن مهدي لا يروي عنه، وكان أحمد بن حنبل لا يراه شيئًا».
قلت: بهذا التخريج والتحقيق يتبين أن قصة «خروج الريح والتستر على صاحبه» قصة
واهية سواء مرفوعة أو موقوفة وما قرن بها من أكل لحم الجزور مما لا أصل له، وأن
أثره سيء في إبعاد المسلمين عن العمل بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ثم بينا
السنة الصحيحة حول «الوضوء من لحوم الإبل».
هذا ما وفقني الله إليه وهو وحده من وراء القصد.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
نواصل في هذا التحذير تقديم البحوث العلمية الحديثية للقارئ الكريم حتى يقف على
حقيقة هذه القصة التي اشتهرت على ألسنة الخطباء والوعاظ والقصاص، واشتهرت عند
العوام ويستدلون بها على عدم إحراج النبي صلى الله عليه وسلم الناس، وأنه كان
يراعي مشاعرهم، وعلى مثل هذا وضع الوضاعون قصة كان لها أثرها السيئ جدًا في
الذين يروونها فإنها تصرفهم عن العمل بأمر النبي لكل من أكل من لحم الإبل أن
يتوضأ، وإلى القارئ الكريم التخريج والتحقيق.
أولاً: متن القصة:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فوجد ريحًا فقال: «ليقم
صاحب الريح فليتوضأ». فاستحيى الرجل أن يقوم، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «ليقم صاحب هذا الريح فليتوضأ فإن الله لا يستحي من الحق». فقال العباس
بن عبد المطلب: يا رسول الله، أفلا نقوم كلنا نتوضأ؟ فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «قوموا كلكم فتوضأوا».
ثانيًا: التخريج:
أخرج الحديث الذي جاءت به هذه القصة ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (17/360/2) من
طريق يحيى بن عبد الله البابلي، حدثنا الأوزاعي، حدثني واصل بن أبي جميل عن
مجاهد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فوجد ريحًا.
القصة.
وعبد الرزاق في «المصنف» (1/140) (ح531) عن الأوزاعي به، وأبو عبيد في «الطهور»
(ح400) حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي به.
ثالثًا: التحقيق:
القصة واهية والحديث الذي جاءت فيه ضعيف جدًا، وفيه علل:
الأولى: الإرسال: والمرسل: هو ما بعد تابع سقط.
حيث إن مجاهدًا الذي رفع القصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو مجاهد بن جبر.
قال الحافظ ابن حجر في «التقريب» (2/229): مجاهد بن جبر من الثالثة. أهـ
والطبقة الثالثة بيّن الحافظ ابن حجر في مقدمة التقريب أنها: «الطبقة الوسطى من
التابعين».
ومما قدمنا يتبين أن هناك سقطًا في الإسناد من بعد التابعي مجاهد بن جبر.
الثانية: واصل بن أبي جميل.
1- أورده الإمام الذهبي في «الميزان» (4/328/9322) وقال: «واصل بن أبي جميل، عن
مجاهد قال يحيى بن معين: لا شيء، وقال البخاري: يروي عن مجاهد، ومكحول، روى عنه
الأوزاعي أحاديث مرسلة». اهـ.
2- قال الإمام البخاري في «التاريخ الكبير» (4/2/173) رقم (2596): «واصل بن أبي
جميل أبو بكر عن مجاهد ومكحول روى عنه الأوزاعي، أحاديث مرسلة». اهـ.
3- قال الإمام ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (4/2/30) رقم (135): «ذكره أبي
عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال: واصل بن أبي جميل لا شيء».
وبهذا يتبين شدة الضعف من سقط في الإسناد وطعن في الراوي حتى قال عنه الشيخ
الألباني - رحمه الله - في «الضعيفة» (3/267) ح(1132): «باطل».
ثم قال بعد عزوه لابن عساكر فقط: قلت: وهذا سند ضعيف مسلسل بالعلل: الإرسال من
مجاهد وهو ابن جبر، وضعف واصل بن أبي جميل، والبابلي.
رابعًا: نكارة المتن ووضع الوضاعين قصة على مثاله.
ثم بين - رحمه الله - النكارة التي في متنها فقال:
«ويشبه هذا الحديث ما يتداوله كثير من العامة، وبعض أشباههم من الخاصة زعموا أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب ذات يوم، فخرج من أحدهم ريح فاستحيى أن يقوم
من بين الناس، وكان قد أكل لحم جزور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سترًا
عليه: «من أكل لحم جزور فليتوضأ»، فقام جماعة كانوا أكلوا من لحمه فتوضأوا.
اهـ.
2- وهذه القصة وضعت على مثال القصة الأخرى في فترة ما بعد ابن الجوزي فما فوقه
حيث إنها لم تذكر في كتب الموضوعات ولا الأصول، لذا قال الشيخ الألباني رحمه
الله: «وهذه القصة مع أنه لا أصل لها في شيء من كتب السنة ولا في غيرها من كتب
الفقه والتفسير فيما علمت، فإن أثرها سيئ جدًا في الذين يروونها فإنها تصرفهم
عن العمل بأمر النبي صلى الله عليه وسلم كل من أكل من لحم الإبل أن يتوضأ كما
ثبت في «صحيح مسلم» وغيره: قالوا: يا رسول الله، أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال:
لا، قالوا: أفنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: توضأوا.
3- ثم قال: «فهم يدفعون هذا الأمر الصحيح الصريح بأنه إنما كان سترًا على ذلك
الرجل لا تشريعًا».
4- كيف يعقل هؤلاء مثل هذه القصة ويؤمنون بها، مع بعدها عن العقل السليم والشرع
القويم؟
5- فإنه مما لا يليق به صلى الله عليه وسلم أن يأمر بأمر لعلة زمنية، ثم لا
يبين للناس تلك العلة، حتى يصير الأمر شريعة أبدية، كما وقع في هذا الأمر، فقد
عمل به جماهير من أئمة الحديث والفقه، فلو أنه صلى الله عليه وسلم كان أمر به
لتلك العلة المزعومة- في القصة التي لا أصل لها - لبينها أتم البيان حتى لا يضل
هؤلاء الجماهير باتباعهم للأمر المطلق.
6- ولكن قبح الله الوضاعين في كل عصر وكل مصر، فإنهم من أعظم الأسباب التي
أبعدت كثيرًا من المسلمين عن العمل بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
7- ورضي الله عن الجماهير العاملين بهذا الأمر الكريم، ووفق الآخرين للاقتداء
بهم في ذلك وفي اتباع كل سنة صحيحة، والله ولي التوفيق». انتهى.
خامسًا: الوضوء من لحوم الإبل:
إن كثيرًا من الناس تأثروا بهذه القصة الواهية ولا يدرون أنها قصة لا أصل لها
فظنوا أن الوضوء من لحم الإبل إنما كان سترًا على ذلك الرجل لا تشريعًا.
فانظر كيف أثرت هذه القصة الواهية في إبعاد كثير من المسلمين عن العمل بسنة
نبيهم صلى الله عليه وسلم التي بينها الإمام مسلم في «صحيحه» (ح360) حيث قال:
حدثنا أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري، حدثنا أبو عوانة، عن عثمان بن عبد الله
بن موهب، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله
عليه وسلم أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: «إن شئت، فَتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ» قال:
أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: «نعم فَتَوضأ من لحوم الإبل»، قال أصلي في مرابض
الغنم؟ قال: «نعم». قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: «لا».
الحديث: صحيح أخرجه مسلم كما بينا آنفًا وأحمد (ح20837، 20963، 21029)، وابن
ماجه (ح495)، وابن حبان (ح1124، 1125، 1126، 1154، 1156)، وابن الجارود (ح25)،
والطبراني في «الكبير» (ح1859، 1861، 1862، 1864، 1865، 1866، 1867)، وابن أبي
شيبة (1/46/47)، والبيهقي (1/158).
1- قال الإمام النووي (3/160):
أ- «وذهب إلى انتقاض الوضوء به - يعني أكل لحم الجزور- أحمد بن حنبل، واختاره
الحافظ أبو بكر البيهقي، وحكي عن أصحاب الحديث مطلقًا، وحكي عن جماعة من
الصحابة رضي الله عنهم أجمعين».
ب- واحتج هؤلاء بحديث الباب وقوله صلى الله عليه وسلم: «نعم فتوضأ من لحوم
الإبل». وعن البراء بن عازب قال: «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من
لحوم الإبل فأمر به».
جـ- قال أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وإسحاق بن راهويه: «صح عن النبي صلى
الله عليه وسلم في هذا حديثان: حديث جابر - يعني: جابر بن سمرة، وحديث البراء،
وهذا المذهب أقوى دليلا».
د- وقد أجيب عن هذا الحديث بحديث جابر - يعني جابر بن عبد الله-: «كان آخر
الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار».
- أخرجه أبو داود (ح192)، وابن حبان (1134)، وابن خزيمة (43)، والنسائي (185)،
وابن الجارود (24)، والبيهقي (1/155، 156)، وإسناده صحيح.
هـ- ولكن هذا الحديث - حديث جابر بن عبد الله - عام، وحديث الوضوء من لحوم
الإبل خاص - حديث جابر بن سمرة وحديث البراء - والخاص مقدم على العام». انتهى.
2- قال ابن قدامة في «المغني» المسألة (48): «وأكل لحم الجزور» وجملة ذلك أن
أكل لحم الإبل ينقض الوضوء على كل نيئًا ومطبوخًا، عالمًا كان أو جاهلاً، وبهذا
قال جابر بن سمرة، ومحمد بن إسحاق، وأبو خيثمة، ويحيى بن يحيى، وابن المنذر،
وهو أحد قولي الشافعي، قال الخطابي: «ذهب إلى هذا عامة أصحاب الحديث». اهـ.
3- وفي «مسائل الإمام أحمد» رواية أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني مسألة
(108): «الوضوء من لحوم الإبل». قال: سمعت أحمد قيل له: «يتوضأ من لحوم الإبل؟
قال: نعم».
4- قال الإمام البيهقي في «السنن الكبرى» (1/159): أخبرنا أبو الحسن بن أبي
المعروف المهرجاني، أخبرنا أبو سهل أحمد بن محمد بن حبان الرازي، حدثنا محمد بن
أيوب، أخبرنا مسدد، حدثنا حفص بن غياث، عن عمران بن سليم عن أبي جعفر قال: «أتى
ابن مسعود بقصعة من الكبد والسنام ولحم الجزور فأكل ولم يتوضأ».
قال الإمام البيهقي: وهذا منقطع وموقوف.
قلت: وكان هذا الأثر آخر ما أورده في باب «التوضي من لحوم الإبل» من الأحاديث
والآثار ثم قال في ختام هذا الباب: «وبمثل هذا لا يترك ما ثبت عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم».
5- أورد الإمام الصنعاني في «سبل السلام شرح بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام»
(1/107) حديث جابر بن سَمرة وعزاه لمسلم.
أ- قال: وروى نحوه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وغيرهم من حديث البراء بن
عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «توضؤوا من لحوم الإبل ولا توضؤوا
من لحوم الغنم».
ب- ثم نقل عن ابن خزيمة أنه قال: «لم أر خلافًا بين علماء الحديث أن هذا الخبر
صحيح من جهة النقل لعدالة ناقليه».
ج- ثم قال: والحديثان دليلان على نقض لحوم الإبل للوضوء، وأن من أكلها انتقض
وضوؤه وقال بهذا أحمد، وإسحاق، وابن المنذر، وابن خزيمة.
واختاره البيهقي وحكاه عن أصحاب الحديث مطلقًا، وحكي عن الشافعي أنه قال: إن صح
الحديث في لحوم الإبل قلت به، قال البيهقي: «قد صح فيه حديثان: حديث جابر،
وحديث البراء».
د- ثم نقل رد الإمام النووي على من ادعى نسخ هذين الحديثين بحديث جابر بن عبد
الله «إنه كان آخر الأمرين منه صلى الله عليه وسلم عدم الوضوء مما مست النار».
قال النووي: «دعوى النسخ باطلة؛ لأن هذا الأخير عام وذلك خاص والخاص مقدم على
العام».
سادسًا: قصة أخرى في خروج الريح من إنسان لم يحرجه عمر رضي الله عنه:
1- المتن:
رُوي عن جرير بن عبد الله البجلي: «أن عمر رضي الله عنه صلى بالناس فخرج من
إنسان شيء فقال: عزمت على صاحب هذه إلاَّ توضأ، وأعاد صلاته، فقال جرير: أو
تعزم على كل من سمعها أن يتوضأ وأن يعيد الصلاة ؟ قال: نِعما. قلت: جزاك الله
خيرًا، فأمرهم بذلك». اهـ.
2- التخريج:
أخرج الأثر الذي جاءت به هذه القصة الإمام الطبراني في «المعجم الكبير» (2/292)
(ح2213) قال: «حدثنا معاذ بن المثنى، حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن مجالد، حدثنا
عامر عن جرير أن عمر رضي الله عنه صلى بالناس». القصة.
3- التحقيق:
قلت: القصة واهية والأثر الذي جاءت به هذه القصة لا يصح وعلته مجالد وهو ابن
سعيد بن عمير.
أورده ابن حجر في «تهذيب التهذيب» (10/37) ونقل أقوال أئمة الجرح والتعديل فيه:
أ- قال أبو طالب عن أحمد: «ليس بشيء».
ب- وقال الدوري عن ابن معين: «لا يحتج بحديثه».
جـ- وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: «ضعيف واهي الحديث».
د- وقال ابن أبي حاتم سئل أبي يحتج بمجالد؟ قال: «لا».
هـ- وقال الدارقطني: «مجالد لا يعتبر به».
و- وقال ابن سعد: «كان ضعيفًا في الحديث».
ز- وقال ابن حبان: «لا يجوز الاحتجاج به».
قلت: لذا لم يرو له مسلم احتجاجًا ولكن روى له متابعة لذا قال الحافظ ابن حجر
في «تهذيب التهذيب» (10/37): «حديثه عند مسلم مقرون». اهـ. حتى لا يغتر من لا
دراية له بعلم الرجال ويقول: روى له مسلم.
وقال الحافظ في «التقريب» (2/229): «ليس بالقوي وقد تغير في آخر عمره».
ونقل عن البخاري في «تهذيب التهذيب» (10/37) أنه قال: «كان يحيى بن سعيد يضعفه،
وكان ابن مهدي لا يروي عنه، وكان أحمد بن حنبل لا يراه شيئًا».
قلت: بهذا التخريج والتحقيق يتبين أن قصة «خروج الريح والتستر على صاحبه» قصة
واهية سواء مرفوعة أو موقوفة وما قرن بها من أكل لحم الجزور مما لا أصل له، وأن
أثره سيء في إبعاد المسلمين عن العمل بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ثم بينا
السنة الصحيحة حول «الوضوء من لحوم الإبل».
هذا ما وفقني الله إليه وهو وحده من وراء القصد.