الحمدُ لله وكفى، والصلاة والسلام على النبيِّ المصطفى، صلى الله عليه وآله
وسلم، أما بعدُ:
فإنَّ قراءة سير الصحابة والاقتداء بهم، نهجٌ غفل عنه البعض وطواه النسيان عند
آخرين، ومعرفة سيرتهم وفضائلهم سببٌ لمحبتهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المرء مع
من أحب». ويتأكد الفضل والخير في الخلفاء الأربعة لسابقتهم في الإسلام وبلائهم
وجهادهم، عاشُوا مع نبيِّهم محمد صلى الله عليه وسلم : آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
[الأعراف: 157].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: «وأما الخلفاء الراشدون والصحابة، فكل
خير فيه المسلمون إلى يوم القيامة من الإيمان والإسلام والقرآن والعلم والمعارف
والعبادات، ودخول الجنَّة، والنجاة من النار، وعلو كلمة الله، فإنما هو ببركة
ما فعله الصحابة الذين بلَّغوا الدِّين وجاهدوا في سبيل الله، وكل مؤمن آمن
بالله، فللصحابة - رضي الله عنهم - الفضل عليه بإذن الله إلى يوم القيامة، وخير
الصحابة تبع لخير الخلفاء الراشدين، فهم كانوا أقوم بكل خير في الدِّين
والدنيا، كانوا والله أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها
تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم،
واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم فإنهم كانوا على
الهدى المستقيم، وقد أثنى الله عليهم وأعدَّ لهم الحسنى فقال تعالى:
وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ
اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:
100]، وأثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «خير الناس قرني،، ثمَّ الذين يلونهم، ثم
الذين يلونهم». [متفق عليه: البخاري: 2652، ومسلم: 2533].
وهذه وقفةٌ مع سيرةِ رجلٍ من هؤلاءِ الرِّجال، بل إنه رجلٌ لا كالرجالِ، إنه
الصديقُ أبو بكرٍ خليفةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم .
أول من أسلم من الرجال، وقد وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بالصديق.
«صَعِدَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أُحدًا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فقال صلى الله عليه وسلم :
«أثبت أُحد، فإنما عليك نبي وصدِّيق وشهيدان». [البخاري: 3675].
وأبو بكر - رضي الله عنه - أول من دعا إلى الله من الصحابة، فأسلم على يديه
أكابر الصحابة، ومنهم عثمان بن عفان، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو
عبيدة - رضي الله عنهم أجمعين-. فمن سرَّه أن ينظرَ إلى عتيقٍ من النّار فلينظر
إلى أبي بكر، كيف لا، وقد أعلنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على منبره خطيبًا: «إنَّ أمنَّ
الناسِ عليَّ في صحبتهِ وماله: أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً غيرَ ربي لاتخذت
أبا بكرٍ، ولكن أُخوَّةُ الإسلامِ ومودتُهُ، لا يبقى بابٌ في المسجدِ إلا بابَ
أبي بكرٍ». [متفق عليه: البخاري: (3904)، ومسلم (2382).].
وقال صلى الله عليه وسلم : «إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر: صدق وواساني بنفسه
وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي ؟.» [البخاري: 3661 ].
ويزدادُ الأمرُ وضوحًا حين يقول عليه الصلاة والسلام: «ما لأحدٍ عندنا يدٌ إلا
وقد كافأناه، ما خلا أبا بكرٍ، فإنَّ له عندنا يدًا يُكافئه الله بها يومَ
القيامةِ، وما نفعني مالُ أحدٍ قط ما نفعني مال أبي بكر، ولو كنتُ متخذًا
خليلاً، لاتخذت أبا بكرٍ خليلاً، ألا وإنَّ صاحبكم خليل الله». [أخرجه الترمذي
وصححه الألباني. صحيح الجامع: 5661].
لقد كان - رضي الله عنه - يسابقُ إلى الخيراتِ، ويبادرُ إلى صنوفِ البرِّ
والإحسان، ومواساةِ ذوي الحاجاتِ، صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجرَ ذاتَ يومٍ بأصحابه،
فلما قضى صلاته قال: «أيُّكم أصبحَ اليومَ صائمًا؟» قال أبو بكر: أنا، قال:
«فمن تبع منكم اليومَ جنازةً؟» قال أبو بكرٍ: أنا. قال: «فمن أطعم منكم اليوم
مسكينًا؟» قال أبو بكر: أنا. قال: «فمن عاد منكم اليومَ مريضًا؟» قال أبو بكر:
أنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما اجتمعن في امرئٍ إلا دخلَ الجنة». [مسلم: 1028].
فكان رضي الله عنه أتقى الأمة بدلالة الكتاب والسُّنة.
قال الله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ
يَتَزَكَّى (18) وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلاَّ
ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى
[الليل: 17-20]،
قد ذكر غير واحد من أهل العلم أنها نزلت في أبي بكر، ولقد كان أبو بكرٍ أسرعَ
إلى الفطنةِ والإدراكِ فيما يُعرِّضُ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه من التلميح دونَ
التصريح.
يُحدِّثُ أبو سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه يقول: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر
يومًا فقال: «عبدٌ خيَّرهُ اللَّـهُ أنْ يؤتيَه زهرةَ الدنيا وبين ما عندهُ
فاختارَ ما عندهُ». فبكى أبو بكرٍ، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم هو المخيَّرَ. وكان أبو بكرٍ أعلَمَنا به. [البخاري: 3904، ومسلم:
2382].
ولقد كان رضي الله عنه خيرَ خليفةٍ، أرحمَ الناسِ وأحناهم عليهم في عفةٍ وصدقٍ
ودعةٍ وحزمٍ، وأناةٍ وكياسة، ويَقظةٍ ومتابعةٍ، وهذه خطبته بعد أخذ البيعة:
«أيها الناس، إني قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإنْ أحسنت فأعينوني، وإن أسأت
فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له
إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله الله، لا يدع
قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قومٍ قط
إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله
فلا طاعة لي عليكم».
عاتب اللهُ جميع الناس في النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلا أبا بكرٍ رضي الله عنه، قال الله
تعالى: إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ
لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة: 40].
قال الحسن: والله لقد عاب الله عز وجل أهل الأرض جميعًا إلا أبا بكر رضي الله
عنه.
[ذكره السيوطي في الدر المنثور 4/200].
إنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه بأفعاله الجميلة، ومبادراتِهِ المتنوعةِ يدخلُ
الجنةِ ليس من بابٍ واحدٍ، ولكن من أبواب الجنة جميعها، فلقد عدَّدَ رسول الله
صلى الله عليه وسلم أبوابَ الجنةِ، فكان مما قال: «من كان من أهل الصلاةِ دُعِيَ من بابِ
الصلاةِ، ومن كان من أهل الجهادِ دُعِيَ من بابِ الجهادِ، ومن كان من أهلِ
الصدقةِ دُعِيَ من بابِ الصدقة، ومن كان من أهلِ الصيام دُعِيَ من بابِ
الصيام». فقال أبو بكرٍ رضي الله عنه: ما على الذي يُدعى من تلك الأبوابِ من
ضرورةٍ؟ وهل يدعى من كلِّها أحدٌ يا رسولُ اللهِ؟ قال: «نعم، وأرجو الله أن
تكون منهم يا أبا بكر». [البخاري: 1897، ومسلم: 1027].
ومن أجلِ هذا فلا جرمَ أنْ يقولَ عمرُ وعليٌّ رضي الله عنهما: ما سبَقْنَا أبا
بكرٍ إلى خيرٍ قطُّ إلا سَبَقَنَا إليه.
وقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك؟» قال: أبقيت لهم الله ورسوله [الترمذي وأبو
داود وحسنه الألباني].
ومع هذا كان رضي الله عنه إذا مدَحَهُ مادحٌ قال: «اللهم أنت أعلم مني بنفسي،
واغفر اللهم لي ما لا يعلمون، واجعلني خيرًا مما يظنون».
[البيهقي في شعب الإيمان].
والحديثُ يطولُ في مسيرةٍ لا ينقضيْ منها العجبُ، فهل تعي الأمةُ في أعقابِ
الزمنِ، وفي مواضعِ الفتنِ المجيدَ من تاريخها؟ أم هل يعي شبابُها أنَّ روحَ
التاريخ يكمنُ في سيرِ الرّجال الأفذاذِ؟ ولكن ما الحيلةُ إذا كان الرَّجالُ لا
يقدِّرون الرجال؟
عن مسروق رضي الله عنه أنه قال: حُب أبي بكرٍ وعمر ومعرفة فضلهما من السنة.
وقيل للحسن: حب أبي بكر وعمر من السنة ؟ قال: لا، بل فريضة.
وقد ذكر ابن الجوزي: أنَّ السلف كانوا يُعلِّمون أولادهم حب أبي بكرٍ وعمر كما
يعلمونهم السور من القرآن، وعلى هذا يتأكد بيان علم الصحابة ودينهم وفضائهلم،
رضي الله عن أبي بكر وعمر وجميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم
الدِّين.