إذا غفلت أنت فلن يغفل قرناء السوء من ضحايا المخدرات أو محترفي الإجرام أو هواة المغامرة الذين هم في سن ولدك وقادرون على التأثير عليه وعلى إقناعه بصحبتهم ومشاركتهم في مغامراتهم وأنشطتهم.
والشارع أيضا بكل ما فيه مما أقل ما نقول فيه أنه ليس مكانا للتلقي والتربية والتوجيه، وأنه تغيب فيه الرقابة سواء الرقابة من لوالدين أو من غيرهم، فإذا غفلت فلن يغفل الشارع.
المجلات الإسلامية المفيدة إلى غير ذلك.
المهم أن للأب وللمسؤول دورا لوصل الناس بهذه الوسائل المفيدة، ومنعهم وإبعادهم عن تلك الوسائل الضارة، وينبغي أن نعلم أن الشر خفيف على النفس والتكاليف ثقيلة والشيطان مسلط فيحتاج الإنسان إلى مراقبة ورعاية وحث وتشجيع:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على……. حب الرضاعة وإن تفطمه ينفطم.
أين الأب المدرك لمسئوليته في تربية ولده.
أين الذي يتصور قول الله عز وجل:
(والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امريء بما كسب رهين)،
فهو يراقب ولده منذ نعومة أطفاله، ومنذ طفولته وهو يسأل الله أن يحقق فيه أمنيته، وأن يجمعه معه في الجنة، وأن يرفعه إلى رتبته حتى يسعد به.
أين الأب الذي يتصور قول النبي (صلى الله عليه وسلم) في ما رواه مسلم عن أبي هريرة:
( إذا مات أبن أدم أنقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ابن صالح يدع له).
حثهم على مكارم الأخلاق، مراقبة المتخلفين عن الأعمال الصالحة ونصحهم وإرشادهم
القيام بالأعمال الخيرية وتبع المحتاجين والفقراء والمعوزين والمعدمين
مراقبة الشباب والقيام باتصالات معهم، محاولة إقامة نشاطات دروس علمية، دروس تحفيظ القرآن الكريم، مسابقات ثقافية،
مثل ذلك المدرس في مدرسته، المسؤول في إدارته أو مدينته أو حكومته أو غير ذلك، كل هؤلاء إذا أهملوا فلا ينتظروا إلا نتائج سلبية والعمل الإيجابي المثمر يتطلب بعض الجهد وبعض البذل.
** النقطة السادسة لا نامت أعين الجبناء:
إن الشجاعة معنى كبير وسر خطير، ولقد أصبحنا نعشقها ونفرح بمن يتحلى بها، إنها هي من أسباب كون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يستطيعون تحطيم سلطان العادة وطاغوت العرف ويتحدون أقوامهم وأممهم، ويصبرون ويصابرون على رغم قلة الناصر والمعين وكثرة المعاند والمخالف، وعلى رغم التلبيس والتدليس.
ما الذي جعل رجلا كموسى (صلى الله عليه وسلم)
يقف أمام طاغية متأله متجبر كفرعون ويقول له :
(لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا).
ما هو الذي جعل رجلا نبيا مختارا كإبراهيم عليه الصلاة والسلام يحطم الأصنام وهو بعد فتى في مقتبل العمر، ثم يقول لقومه وعلى رأسهم النمرود الطاغية الأكبر:
(إف لكم ولما تعبدون من دون الله ).
ما الذي جعل رجلا كمحمد (صلى الله عليه وسلم) يجمع قومه وفيهم أبو لهب وأبو جهل وعتبة وشيبة وأمية أبن خلف والملء من المستكبرين فيقف بين أيديهم منذرا محذرا:
( إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا).
ثم ما الذي جعل المجددين يستطيعون أن يصبروا على عملهم ويجاهدوا ويعلنوه صريحة قوية مدوية، لماذا وقف عمر أبن عبد العزيز وتحدى كل الأمور المعتادة،
حتى بني أمية الذين كان واحدا منهم وينتسب إليهم، وكانوا يخشون أن يغير ملكهم أو عادتهم أو ميراثهم فيف عمر أبن عبد العزيز رحمه الله نصيرا للحق مدافعا عنه قائما على الظلم محاربا له رادا للحقوق إلى أهلها، لا يأمر بخير إلا فعله، وكاد الأمر أن يتم لولا السم.
ما الذي جعل رجلا كالإمام أحمد أبن حنبل يقف فيقارع الظالمين في مسألة خلق القرآن
ويصبر على عقيدته التي ورثها عن الأنبياء والمرسلين ويصابر عليها ويرضى بالسجن والجلد والتعذيب والمطاردة والتضييف والحرمان من الفرص من التدريس من التعليم من المحاضرات من الإفتاء ومن غير ذلك حتى أذن الله تعالى له بالفرج وكتب له الذكر الحسن
حتى كان رحمه الله يستاء من ذلك ويكره الشهرة أشد الكراهية.
ما الذي جعل رجلا كالإمام أبن حزم يقف ويتحدى من حوله ويصبر ويصابر فإذا قيل له:
يا رجل تحفظ أنتظر لا تتعجل.
أنشئ يقول:
قالوا تحفظ فإن الناس قد كثرت……أقوالهم وأقاويل الورى محن
فقلت هل عيبهم لي غير أني لا…… أدين بالدجل إذ في دجلهم فتن
وأنني مولع بالحق لست إلى ……. سواه أنح ولا في نصره أهن
دعهم يعضوا على صم الحصى كمدا…… من مات من غيظه منهم له كفن.
قالوا له أحرقوا كتبك ومزقوها ومنعوا تداولها وحذروا الناس منها ووصفوها بأبشع الأوصاف
فأنشئ يقول:
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي….تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي……وينزل إن أنزل ويدفن في قبري
دعوني من إحراق رق وكاغد….وقول بعلم كي يرى الناس من يدري
وإلا فعودوا للكتاتيب بدأة…فكم دون ما تبغون لله من ستر
كذاك النصارى يحرقون إذا علت……أكفهم القرآن في مدن الثغر.
ما الذي جعل رجلا كالإمام أبن تيمية رحمه الله يصبر ويجهر بكلمة الحق
ويتحمل الأذى في سبيلها فيسجن مرات ويؤذى بل ويضرب أحيانا في الشارع وهو إلى ذلك كله مجاهر معلن لا ينثني للرياح أبدا.
ما الذي جعل رجلا كالإمام المجدد محمد أبن عبد الوهاب يقوم في بيئة قد انتشر فيها الشرك بألوانه والبدع والخرافات والكهنة والسحرة وغير ذلك وألوان المخالفات
( فأيدنا الذين أمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين).
ما الذي جعل رجلا كالإمام الشوكاني مثلا ينتصر للحق ويناضل في سبيله ويلقى ما يلقى فيموت هو ويبقى ذكره في الآخرين.
وهكذا، إن الشجاعة قوة في القلب تجعل صاحبها لا يستوحش من الطريق ولا ينفر من الوحدة ولا يتخلى عن الحق مهما كلفته التضحيات ولا يجامل أو يحابي أو ينافق أو يداهن في دين الله عز وجل.
إنه لا مكان في التاريخ للجبناء والمرتزقة والمطبلين أبدا، فإن الناس يركلونهم ويرفضونهم ويبقى الحق هو الذي تعشقه النفوس وتتطلع إليه القلوب وقد قال الله عز وجل :
( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون).
إن من أبرز أخطائنا أن نغرس الخوف في نفوس أبناءنا، الخوف من كل شيء، نحرمهم من التجارب
ومن المحاولات بحجة أن هذا قد يودي بحياتهم فمثلا نحن قد نخيف الولد الصغير من الكهرباء أو من السيارة أن تدهسه وهذا صحيح لا شك فيه.
ولكن ما معنى أن تربيه الجدة على الخوف من (السعالي) فلا تذكر له سالفة أو قصة إلا وذكرت فيها تلك السعلات التي تأكل الأحياء من البشر وتلتهمهم وتفعل بهم وتفعل
ما الذي يجعلنا نخوف أبناءنا من تلك الأقراص الحامية التي نزعم أنها تنزل من السماء لأدنى سبب حتى لو لم يكن مخالفة شرعية ولا معصية مع أن هذا فيه من الكذب والافتراء على الله عز وجل.
ما الذي يجعلنا نخوف أطفالنا أحيانا من رجل الشرطة حتى نقول لطفل الصغير أن مجرد إشارتك بالإصبع إلى رجل الشرطة يعني أن تقطع إصبعك.
ما الذي يجعلنا نخوف أطفالنا بل ونساءنا وكبارنا أحيانا من الجن، وكأن الجن والعياذ بالله يستطيعون أن يصنعوا كل شيء.
أو من العين أو من السحر، وننسى أن نربيهم على التوكل على الله عز وجل والثقة به والاعتماد عليه وكثرة الأوراد والقراءات والأدعية التي تحفظ العبد بأذن الله تعالى من شياطين الجن والأنس.
إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول:
(إن الشيطان لا يدخل البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة).
فالبيت الذي فيه ذكر الله، وفيه الأمر بالمعروف وفيه التربية على مكارم الأخلاق لا مكان فيه للشيطان ولا مكان فيه لأولياء الشيطان من الجن ولا من الأنس.
وفي الدائرة الأوسع حينما نتجاوز دائرة البيت ودائرة الطفل نجد أن هناك تخويفا عالميا من أولياء الشيطان، من الكفار من اليهود مثلا الذين أصبحنا نتحدث عن أسلحتهم التي يملكون وخططهم التي يدبرون وقدراتهم أو التمكين لهم
أو النصارى وما يملكونه أيضا. أو غيرهم من أمم الكفر والله عز وجل يقول:
(إنما ذلكم الشيطان يخوف أوليائه، فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين).
يعني إنما ذلكم الشيطان يخوفكم انتم من أوليائه، يكّبر أوليائه في قلوبكم حتى ترهبوهم فلا تقوموا بعمل ولا بدعوة ولا بجهاد، لأن الإنسان الذي يخاف لا يعمل ولا ينتج.
لماذا نربي أنفسنا وشعوبنا وأممنا على الخوف من الدول العظماء وجيوشها الجرارة وأجهزتها الأمنية الضخمة وأعدادها الرهيبة.
بل لماذا نربي أنفسنا ومن تحت أيدينا من الشباب والطلاب على الخوف من أجهزة الأمن ومن رجال المباحث ومن المخابرات حتى يتخيل الإنسان أحيانا أن هذه الأجهزة تدخل إلى جوفه مع الشهيق وترسل التقرير مع الزفير كما يقول أحدهم.
ويصبح الإنسان يخاف حتى من ظله:
حتى صدى الهمسات غشاه الوهن…… لا تنطقوا إن الجدار له أُذن.
مثل ذلك أيضا من ألوان الخوف وفقدان الشجاعة الخوف من الفشل والخوف من الخطأ والخوف من الإخفاق، لا.. إن المؤسف أننا لا نحترم اجتهاد الإنسان، ولا نقدّر عمله، بل أحيانا نعاقبه على اجتهاده عقابا يحرمه ويحرم غيره في المستقبل حتى من مجرد التفكير في العمل
إنها منطقة محرمة والسلامة لا يعدلها شيء، والكثيرون يؤثرون أن يسلموا لا لهم ولا عليهم على أن يغامروا وقد تكون النتيجة غير مأمونة.
إن ذلك قتل للمواهب ووئد لطموح وقضاء على الإبداع ويجب أن نعلم أن الذي لا يخطئ لا يمكن أن يصيب أبدا.
ولكي نربي الشجاعة في نفوسنا ونفوس من تحت أيدينا من الأولاد والبنات والرجال والنساء والأمم والشعوب، يجب احترام شخصية الإنسان واحترام رأيه منذ الصغر وفي كافة المراحل وعلى كافة المستويات.
فأنا أقول لك أي معنى لأن تولي ولدك أعمالا ثم تسفه رأيه فيها، وإذا قال لك فلان قلت فلان لا يهمك، لماذا ؟ لأنه ولدك الذي تعرفه.
لا… ينبغي أن تحترم شخصيته ورأيه واجتهاده وعمله وتسلم له تخصصه.
وأي معنى لأن تفرض على ولدك كل شيء ولا تعطيه مجالا للاختيار والتفضيل أبدا، فالثوب أنت تختاره والحذاء أنت تختاره واللعبة أنت تختارها والكتاب أنت تختاره وكل شيء أنت تختاره.
لماذا لا تغطي ولدك أو أخاك أو من تربيه فرصة في الاختيار؟
حتى المعلم أو الأستاذ أو الشيخ، لماذا لا يعطي تلميذه فرصة في اختيار الكتاب الذي يقرأه أو الطريقة التي يتعلم بها ؟
أليس الشرع جاءنا بالشورى ؟ والله تعالى يقول:
(وشاورهم بالأمر).
فيأمر بذلك رسوله (صلى الله عليه وسلم) المؤيد بالوحي من السماء، ويقول:
(وأمرهم شورى بينهم).
ذلك في وصف المؤمنين، ولم يكن أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، وكثيرا ما كان الصحابة أبو بكر أو عمر أو من بعدهم يقف ويقول:
(أشيروا علي أيها الناس.).
فالولد مع أبيه في عمله وتجارته وزراعته، والطالب مع مدرسه في طريقة التدريس، في أخذ المنهج وفي غير ذلك، والتلميذ مع شيخة أيضا في الكتاب المقرر وفي وقت الدرس وفي زمانه وفي مكانه
وفي غير ذلك.
بل والرعية مع حكامها في كل شيء من الأمور والهموم العامة التي لا يتحمل مسئوليتها فرد بعينه، ولا جهة بعينها بل هي قضايا الأمة كلها
تتحمل الأمة نتائجها حقا كانت أم باطلا، خطئ أو صوابا.
إن جميعا شركاء في اقتسام الإنجازات، وتعميق الشعور بالانتماء إلى هذه الأمة والقضاء على السلبية التي يشعر بها الكثيرون حين يشعرون أنهم كما قيل:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم…. ولا يستأمرون وهم شهود.
إن ثلاثمائة وأربعة عشر إنسان استطاعوا أن يواجهوا الدنيا كلها في معركة بدر، والمسلمون اليوم كما تقول الإحصائيات ألف مليون ومائتا مليون إنسان، وهم يتكاثرون بشكل سريع، فهم كما قيل عدد الرمل والحصى والتراب
لكن الفرد منهم تربى على الخوف والتردد والسلبية
وكل وسائل التربية مع الأسف تنحت فيه هذه المخاوف.
فالأم التي ترهبه دائما وتخوفه من الموت.
والأب الذي يعاتبه على كل شيء.
والزوجة التي قتلته بحبها، ومن الحب ما قتل.
والولد الذي يتعلق به:
(إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم……الآية ).
(إنكم مجبنة مبخلة).
والحاكم الذي يهدده ويوعده.
كل ذلك ينحت ويربي في الإنسان الجبن والخوف، وينزع عنه القدرة على المحاولة وعلى التجربة وعلى التفكير الصحيح.
ولقد تربى الصحابة رضي الله عنهم في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) على الأحداث، تربوا بالأحداث والمصائب والنكبات، كما تربوا بالنعم التي أنزلها الله تعالى عليهم.
حتى الخطأ كان تربية، وكانت الآيات تنزل ليستفيد المسلمون منه دروسا وعبرا فيتحول إلى نعمة ومنحة ومنة.
وفي معركة أحد هُزم المسلمون، فقالوا أنى هذا ؟
فأنزل الله تعالى آيات في سورة آل عمران تتحدث عن هذه المعركة ودروسها:
(أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير، وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين..) إلى أخر الآيات.
** النقطة السابعة والأخيرة التوازن المفـقود.
إن التوازن مطلب شرعي؟، فالله تعالى يقول:
(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين).
وفي الحديث المتفق عليه وهو معروف حديث عبد الله أبن عمر أبن العاص:
(إن لنفسك عليك حق، ولأهلك عليك حق، ولزوجك عليك حق، بل في رواية ولزورك عليك حق فآت كل ذي حق حقه).
وإن أي زيادة في جانب أو غلو يقابلها نقص أو تفريط في جانب آخر:
ولا تغلو في شيء من الأمر واقتصد….كلا طرفي قصد الأمور ذميم
والمقياس في الزيادة والنقص هو النص، إما آية من كتاب الله، أو حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صحيح، أو إجماع من أهل العلم قائم ثابت.
قد يهتم الإنسان أحيانا بأمر من الأمور لأن جبلته وتكوينه وملكته تقتضي ذلك دون أن يلزم غيره بهذا، أو يعاتبه على ما سواه، فلا حرج في ذلك.
فأنت مثلا اهتماماتك علمية، لا حرج عليك ولا بأس.
وآخر اهتماماته جهادية، وثالث اهتماماته دعوية.
ونحن نعلم أن في الصحابة رضي الله عنهم أبا ذر الغفاري الذي لم يكن فوق الأرض ولا تحت السماء من ذي لهجة أصدق منه ولا أزهد ولا أورع في أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنه لم يكن من أهل الولايات والإدارة.
وفيهم خالد أبن الوليد الذي كان سيفا من سيف الله تعالى كما سماه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وحديثه في الصحيح في معركة مؤته
الذي كان قويا شجاعا مقداما باسلا ما هزم في معركة قط، ولكن خالد رضي الله عنه أنشغل بالحرب والجهاد فلم بتفرغ لنشر العلم والفتي في أصحاب محمد ومن بعدهم.
وفيهم أبن عباس رضي الله عنه الذي دعا له النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال:
(اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل).
وكان له قلب عقول ولسان سأؤول وكان من لمفتين ومن العلماء في أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) في ملأ منهم كابن الخطاب وعبد الله أبن مسعود ومعاذ أبن جبل.
وفي أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) من جمع الفضل والمجد من أطرافه كأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، قال النبي (صلى الله عليه وسلم) يوما لأصحابه:
(من أصبح منكم صائما ؟ قال أبو بكر أنا)
(قال من تصدق على مسكين ؟ قال أبو بكر أنا)
(قال من عاد مريضا ؟ قال أبو بكر أنا)
(قال من تبع منكم جنازة ؟ قال أبو بكر أنا)
(قال ما اجتمعن في امرأ إلا دخل الجنة).
وفيهم أمثال عمر أبن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
إذا لابد من الاعتدال مع مراعاة المواهب والتخصصات والملكات، المهم أن الإنسان يحرص على قدر من الاعتدال.
من الاعتدال، الاعتدال في بناء الشخصية
فيتوسط الإنسان بين الاندفاع وراء العاطفة الجياشة التي لا تنضبط أو التوقف بحجة العقل والدراسة والنظر، فإن الإنسان كل لا يتجزأ وله عقل وعاطفة ولولا وجود العاطفة لما استطاع الإنسان أن يتعامل مع الناس، ولا يأخذ ويعطي ولا يتوفر أمورهم ولا يحبهم أو يحبونه أو يتعامل معهم.
فلابد من الاعتدال في النظر بين العقل والعاطفة.
ومثله أيضا الاعتدال في تقييم الرجال فلا غلو ولا جفاء
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يربون لناس على ذلك، قال علي رضي الله عنه:
( إنه لعهد عهده إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه تهلك في فئتان، فئة غلت وفئة جفت).
وهكذا حدث فعلا، فإن ممن بعد علي رضي الله عنه من غلوا فيه حتى ادعوا له لا أقول الولاية والإمامة فهو كان أمير المؤمنين رضي الله عنه، لكن ادعوا له والعياذ بالله الألوهية وكان يقتلهم ويحرقهم بالنار، وهم يقولون له أنت أنت، يعني يزعمون له بالألوهية، وهو يقول:
لما رأيت الأمر أمرا منكرا….أججت ناري ودعوت قنبرا
فكان يحرقهم رضي الله عنه.
وهلكت فيه فئة أخرى هي التي فرطت في حقه وقصرت ونسبته إلى شيء مما لا يليق بقدره ومقامه رضي الله تعالى عنه.
إن المقياس كما أسلفت هو النص، وفي صحيح البخاري عن عمر رضي الله عنه قال:
(أقرؤنا أبُي وأقضانا علي).
فحكم أمير المؤمنين بأن اُبي هو لأقرأ وأن عليا هو الأقضى، يعني الأعلم بالقضاء، ثم قال عمر:
(وإنا لندع من قول أبُي) يعني نترك بعض ما يرويه لنا أبي أبن كعب رضي الله عنه وذلك أن أبي أبن كعب كان يقول:
(لا أدع شيئا سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وقد قال الله عز وجل:
(ما ننسخ من آية أو ننسها نأتي بخير منها أو مثلها…. الآية)
فأنظر إلى عمر كيف اعترف لأبي أنه هو لأقرأ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
ثم بين أننا مع ذلك نرد بعض قوله لا بالتشهي ولكن بالنص الشرعي، فقال إن ابي يقول كذا وقد قال الله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأتي بخير منها أو مثلها….الآية).
فقال نرد بعض ما قاله ابي بالقرآن الكريم وليس بمجرد التشهي.
إن الأمة التي تغلو في شخص لابد أن تقصر فيه، تعظمه حتى لا تتصور أنه يخطئ، فيقع منه الخطأ فتجحف في حقه، ولا ترى له قدرا ولا مكانا، وهناك أمة تبالغ في شأن شخص إهدارا لكرامته، فيبالغ آخرون في رفع اعتباره وقيمته ومنزلته.
إذا فالاعتدال والحق فضيلة بين رذيلتين.
إن من العتدال، الاعتدال في معاملة المرؤوسين
إن من الاعتدال التوسط في ملاحظة النفوس وطبائعها
من الاعتدال: الاعتدال بالنصيحة والتوجيه
فليس من الحكمة حرمان الناس من النصيحة والنقد البناء الهادف الذي يكون بالأسلوب الحكيم المناسب أبدا بحجة الخوف من ذلك.
وليس من الملائم تربية الناس على الصفاقة وقلة الأدب وغياب الخلق بحجة تربيتهم على قول كلمة الحق، أو عدم المجاملة في دين الله تعالى.
ومن الاعتدال أيضا، الاعتدال في تربية النفس.
وتربية الآخرين فلا ينبغي للإنسان أن ينشغل بنفسه عن غيره، ولا أن ينشغل بغيره عن نفسه، بل الاعتدال الاعتدال، وكما قيل:
يا أيها الرجل المعلم غيرها ….. هل لنفسك كان ذا التعليم
ابدأ بنفسك فأنهها عن غيها…... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى… بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ….. عار عليك إذا فعلت عظيم.
لفضيلة الشيخ سلمان ابن فهد العودة.
والشارع أيضا بكل ما فيه مما أقل ما نقول فيه أنه ليس مكانا للتلقي والتربية والتوجيه، وأنه تغيب فيه الرقابة سواء الرقابة من لوالدين أو من غيرهم، فإذا غفلت فلن يغفل الشارع.
المجلات الإسلامية المفيدة إلى غير ذلك.
المهم أن للأب وللمسؤول دورا لوصل الناس بهذه الوسائل المفيدة، ومنعهم وإبعادهم عن تلك الوسائل الضارة، وينبغي أن نعلم أن الشر خفيف على النفس والتكاليف ثقيلة والشيطان مسلط فيحتاج الإنسان إلى مراقبة ورعاية وحث وتشجيع:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على……. حب الرضاعة وإن تفطمه ينفطم.
أين الأب المدرك لمسئوليته في تربية ولده.
أين الذي يتصور قول الله عز وجل:
(والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امريء بما كسب رهين)،
فهو يراقب ولده منذ نعومة أطفاله، ومنذ طفولته وهو يسأل الله أن يحقق فيه أمنيته، وأن يجمعه معه في الجنة، وأن يرفعه إلى رتبته حتى يسعد به.
أين الأب الذي يتصور قول النبي (صلى الله عليه وسلم) في ما رواه مسلم عن أبي هريرة:
( إذا مات أبن أدم أنقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ابن صالح يدع له).
حثهم على مكارم الأخلاق، مراقبة المتخلفين عن الأعمال الصالحة ونصحهم وإرشادهم
القيام بالأعمال الخيرية وتبع المحتاجين والفقراء والمعوزين والمعدمين
مراقبة الشباب والقيام باتصالات معهم، محاولة إقامة نشاطات دروس علمية، دروس تحفيظ القرآن الكريم، مسابقات ثقافية،
مثل ذلك المدرس في مدرسته، المسؤول في إدارته أو مدينته أو حكومته أو غير ذلك، كل هؤلاء إذا أهملوا فلا ينتظروا إلا نتائج سلبية والعمل الإيجابي المثمر يتطلب بعض الجهد وبعض البذل.
** النقطة السادسة لا نامت أعين الجبناء:
إن الشجاعة معنى كبير وسر خطير، ولقد أصبحنا نعشقها ونفرح بمن يتحلى بها، إنها هي من أسباب كون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يستطيعون تحطيم سلطان العادة وطاغوت العرف ويتحدون أقوامهم وأممهم، ويصبرون ويصابرون على رغم قلة الناصر والمعين وكثرة المعاند والمخالف، وعلى رغم التلبيس والتدليس.
ما الذي جعل رجلا كموسى (صلى الله عليه وسلم)
يقف أمام طاغية متأله متجبر كفرعون ويقول له :
(لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا).
ما هو الذي جعل رجلا نبيا مختارا كإبراهيم عليه الصلاة والسلام يحطم الأصنام وهو بعد فتى في مقتبل العمر، ثم يقول لقومه وعلى رأسهم النمرود الطاغية الأكبر:
(إف لكم ولما تعبدون من دون الله ).
ما الذي جعل رجلا كمحمد (صلى الله عليه وسلم) يجمع قومه وفيهم أبو لهب وأبو جهل وعتبة وشيبة وأمية أبن خلف والملء من المستكبرين فيقف بين أيديهم منذرا محذرا:
( إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا).
ثم ما الذي جعل المجددين يستطيعون أن يصبروا على عملهم ويجاهدوا ويعلنوه صريحة قوية مدوية، لماذا وقف عمر أبن عبد العزيز وتحدى كل الأمور المعتادة،
حتى بني أمية الذين كان واحدا منهم وينتسب إليهم، وكانوا يخشون أن يغير ملكهم أو عادتهم أو ميراثهم فيف عمر أبن عبد العزيز رحمه الله نصيرا للحق مدافعا عنه قائما على الظلم محاربا له رادا للحقوق إلى أهلها، لا يأمر بخير إلا فعله، وكاد الأمر أن يتم لولا السم.
ما الذي جعل رجلا كالإمام أحمد أبن حنبل يقف فيقارع الظالمين في مسألة خلق القرآن
ويصبر على عقيدته التي ورثها عن الأنبياء والمرسلين ويصابر عليها ويرضى بالسجن والجلد والتعذيب والمطاردة والتضييف والحرمان من الفرص من التدريس من التعليم من المحاضرات من الإفتاء ومن غير ذلك حتى أذن الله تعالى له بالفرج وكتب له الذكر الحسن
حتى كان رحمه الله يستاء من ذلك ويكره الشهرة أشد الكراهية.
ما الذي جعل رجلا كالإمام أبن حزم يقف ويتحدى من حوله ويصبر ويصابر فإذا قيل له:
يا رجل تحفظ أنتظر لا تتعجل.
أنشئ يقول:
قالوا تحفظ فإن الناس قد كثرت……أقوالهم وأقاويل الورى محن
فقلت هل عيبهم لي غير أني لا…… أدين بالدجل إذ في دجلهم فتن
وأنني مولع بالحق لست إلى ……. سواه أنح ولا في نصره أهن
دعهم يعضوا على صم الحصى كمدا…… من مات من غيظه منهم له كفن.
قالوا له أحرقوا كتبك ومزقوها ومنعوا تداولها وحذروا الناس منها ووصفوها بأبشع الأوصاف
فأنشئ يقول:
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي….تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي……وينزل إن أنزل ويدفن في قبري
دعوني من إحراق رق وكاغد….وقول بعلم كي يرى الناس من يدري
وإلا فعودوا للكتاتيب بدأة…فكم دون ما تبغون لله من ستر
كذاك النصارى يحرقون إذا علت……أكفهم القرآن في مدن الثغر.
ما الذي جعل رجلا كالإمام أبن تيمية رحمه الله يصبر ويجهر بكلمة الحق
ويتحمل الأذى في سبيلها فيسجن مرات ويؤذى بل ويضرب أحيانا في الشارع وهو إلى ذلك كله مجاهر معلن لا ينثني للرياح أبدا.
ما الذي جعل رجلا كالإمام المجدد محمد أبن عبد الوهاب يقوم في بيئة قد انتشر فيها الشرك بألوانه والبدع والخرافات والكهنة والسحرة وغير ذلك وألوان المخالفات
( فأيدنا الذين أمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين).
ما الذي جعل رجلا كالإمام الشوكاني مثلا ينتصر للحق ويناضل في سبيله ويلقى ما يلقى فيموت هو ويبقى ذكره في الآخرين.
وهكذا، إن الشجاعة قوة في القلب تجعل صاحبها لا يستوحش من الطريق ولا ينفر من الوحدة ولا يتخلى عن الحق مهما كلفته التضحيات ولا يجامل أو يحابي أو ينافق أو يداهن في دين الله عز وجل.
إنه لا مكان في التاريخ للجبناء والمرتزقة والمطبلين أبدا، فإن الناس يركلونهم ويرفضونهم ويبقى الحق هو الذي تعشقه النفوس وتتطلع إليه القلوب وقد قال الله عز وجل :
( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون).
إن من أبرز أخطائنا أن نغرس الخوف في نفوس أبناءنا، الخوف من كل شيء، نحرمهم من التجارب
ومن المحاولات بحجة أن هذا قد يودي بحياتهم فمثلا نحن قد نخيف الولد الصغير من الكهرباء أو من السيارة أن تدهسه وهذا صحيح لا شك فيه.
ولكن ما معنى أن تربيه الجدة على الخوف من (السعالي) فلا تذكر له سالفة أو قصة إلا وذكرت فيها تلك السعلات التي تأكل الأحياء من البشر وتلتهمهم وتفعل بهم وتفعل
ما الذي يجعلنا نخوف أبناءنا من تلك الأقراص الحامية التي نزعم أنها تنزل من السماء لأدنى سبب حتى لو لم يكن مخالفة شرعية ولا معصية مع أن هذا فيه من الكذب والافتراء على الله عز وجل.
ما الذي يجعلنا نخوف أطفالنا أحيانا من رجل الشرطة حتى نقول لطفل الصغير أن مجرد إشارتك بالإصبع إلى رجل الشرطة يعني أن تقطع إصبعك.
ما الذي يجعلنا نخوف أطفالنا بل ونساءنا وكبارنا أحيانا من الجن، وكأن الجن والعياذ بالله يستطيعون أن يصنعوا كل شيء.
أو من العين أو من السحر، وننسى أن نربيهم على التوكل على الله عز وجل والثقة به والاعتماد عليه وكثرة الأوراد والقراءات والأدعية التي تحفظ العبد بأذن الله تعالى من شياطين الجن والأنس.
إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول:
(إن الشيطان لا يدخل البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة).
فالبيت الذي فيه ذكر الله، وفيه الأمر بالمعروف وفيه التربية على مكارم الأخلاق لا مكان فيه للشيطان ولا مكان فيه لأولياء الشيطان من الجن ولا من الأنس.
وفي الدائرة الأوسع حينما نتجاوز دائرة البيت ودائرة الطفل نجد أن هناك تخويفا عالميا من أولياء الشيطان، من الكفار من اليهود مثلا الذين أصبحنا نتحدث عن أسلحتهم التي يملكون وخططهم التي يدبرون وقدراتهم أو التمكين لهم
أو النصارى وما يملكونه أيضا. أو غيرهم من أمم الكفر والله عز وجل يقول:
(إنما ذلكم الشيطان يخوف أوليائه، فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين).
يعني إنما ذلكم الشيطان يخوفكم انتم من أوليائه، يكّبر أوليائه في قلوبكم حتى ترهبوهم فلا تقوموا بعمل ولا بدعوة ولا بجهاد، لأن الإنسان الذي يخاف لا يعمل ولا ينتج.
لماذا نربي أنفسنا وشعوبنا وأممنا على الخوف من الدول العظماء وجيوشها الجرارة وأجهزتها الأمنية الضخمة وأعدادها الرهيبة.
بل لماذا نربي أنفسنا ومن تحت أيدينا من الشباب والطلاب على الخوف من أجهزة الأمن ومن رجال المباحث ومن المخابرات حتى يتخيل الإنسان أحيانا أن هذه الأجهزة تدخل إلى جوفه مع الشهيق وترسل التقرير مع الزفير كما يقول أحدهم.
ويصبح الإنسان يخاف حتى من ظله:
حتى صدى الهمسات غشاه الوهن…… لا تنطقوا إن الجدار له أُذن.
مثل ذلك أيضا من ألوان الخوف وفقدان الشجاعة الخوف من الفشل والخوف من الخطأ والخوف من الإخفاق، لا.. إن المؤسف أننا لا نحترم اجتهاد الإنسان، ولا نقدّر عمله، بل أحيانا نعاقبه على اجتهاده عقابا يحرمه ويحرم غيره في المستقبل حتى من مجرد التفكير في العمل
إنها منطقة محرمة والسلامة لا يعدلها شيء، والكثيرون يؤثرون أن يسلموا لا لهم ولا عليهم على أن يغامروا وقد تكون النتيجة غير مأمونة.
إن ذلك قتل للمواهب ووئد لطموح وقضاء على الإبداع ويجب أن نعلم أن الذي لا يخطئ لا يمكن أن يصيب أبدا.
ولكي نربي الشجاعة في نفوسنا ونفوس من تحت أيدينا من الأولاد والبنات والرجال والنساء والأمم والشعوب، يجب احترام شخصية الإنسان واحترام رأيه منذ الصغر وفي كافة المراحل وعلى كافة المستويات.
فأنا أقول لك أي معنى لأن تولي ولدك أعمالا ثم تسفه رأيه فيها، وإذا قال لك فلان قلت فلان لا يهمك، لماذا ؟ لأنه ولدك الذي تعرفه.
لا… ينبغي أن تحترم شخصيته ورأيه واجتهاده وعمله وتسلم له تخصصه.
وأي معنى لأن تفرض على ولدك كل شيء ولا تعطيه مجالا للاختيار والتفضيل أبدا، فالثوب أنت تختاره والحذاء أنت تختاره واللعبة أنت تختارها والكتاب أنت تختاره وكل شيء أنت تختاره.
لماذا لا تغطي ولدك أو أخاك أو من تربيه فرصة في الاختيار؟
حتى المعلم أو الأستاذ أو الشيخ، لماذا لا يعطي تلميذه فرصة في اختيار الكتاب الذي يقرأه أو الطريقة التي يتعلم بها ؟
أليس الشرع جاءنا بالشورى ؟ والله تعالى يقول:
(وشاورهم بالأمر).
فيأمر بذلك رسوله (صلى الله عليه وسلم) المؤيد بالوحي من السماء، ويقول:
(وأمرهم شورى بينهم).
ذلك في وصف المؤمنين، ولم يكن أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، وكثيرا ما كان الصحابة أبو بكر أو عمر أو من بعدهم يقف ويقول:
(أشيروا علي أيها الناس.).
فالولد مع أبيه في عمله وتجارته وزراعته، والطالب مع مدرسه في طريقة التدريس، في أخذ المنهج وفي غير ذلك، والتلميذ مع شيخة أيضا في الكتاب المقرر وفي وقت الدرس وفي زمانه وفي مكانه
وفي غير ذلك.
بل والرعية مع حكامها في كل شيء من الأمور والهموم العامة التي لا يتحمل مسئوليتها فرد بعينه، ولا جهة بعينها بل هي قضايا الأمة كلها
تتحمل الأمة نتائجها حقا كانت أم باطلا، خطئ أو صوابا.
إن جميعا شركاء في اقتسام الإنجازات، وتعميق الشعور بالانتماء إلى هذه الأمة والقضاء على السلبية التي يشعر بها الكثيرون حين يشعرون أنهم كما قيل:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم…. ولا يستأمرون وهم شهود.
إن ثلاثمائة وأربعة عشر إنسان استطاعوا أن يواجهوا الدنيا كلها في معركة بدر، والمسلمون اليوم كما تقول الإحصائيات ألف مليون ومائتا مليون إنسان، وهم يتكاثرون بشكل سريع، فهم كما قيل عدد الرمل والحصى والتراب
لكن الفرد منهم تربى على الخوف والتردد والسلبية
وكل وسائل التربية مع الأسف تنحت فيه هذه المخاوف.
فالأم التي ترهبه دائما وتخوفه من الموت.
والأب الذي يعاتبه على كل شيء.
والزوجة التي قتلته بحبها، ومن الحب ما قتل.
والولد الذي يتعلق به:
(إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم……الآية ).
(إنكم مجبنة مبخلة).
والحاكم الذي يهدده ويوعده.
كل ذلك ينحت ويربي في الإنسان الجبن والخوف، وينزع عنه القدرة على المحاولة وعلى التجربة وعلى التفكير الصحيح.
ولقد تربى الصحابة رضي الله عنهم في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) على الأحداث، تربوا بالأحداث والمصائب والنكبات، كما تربوا بالنعم التي أنزلها الله تعالى عليهم.
حتى الخطأ كان تربية، وكانت الآيات تنزل ليستفيد المسلمون منه دروسا وعبرا فيتحول إلى نعمة ومنحة ومنة.
وفي معركة أحد هُزم المسلمون، فقالوا أنى هذا ؟
فأنزل الله تعالى آيات في سورة آل عمران تتحدث عن هذه المعركة ودروسها:
(أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير، وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين..) إلى أخر الآيات.
** النقطة السابعة والأخيرة التوازن المفـقود.
إن التوازن مطلب شرعي؟، فالله تعالى يقول:
(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين).
وفي الحديث المتفق عليه وهو معروف حديث عبد الله أبن عمر أبن العاص:
(إن لنفسك عليك حق، ولأهلك عليك حق، ولزوجك عليك حق، بل في رواية ولزورك عليك حق فآت كل ذي حق حقه).
وإن أي زيادة في جانب أو غلو يقابلها نقص أو تفريط في جانب آخر:
ولا تغلو في شيء من الأمر واقتصد….كلا طرفي قصد الأمور ذميم
والمقياس في الزيادة والنقص هو النص، إما آية من كتاب الله، أو حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صحيح، أو إجماع من أهل العلم قائم ثابت.
قد يهتم الإنسان أحيانا بأمر من الأمور لأن جبلته وتكوينه وملكته تقتضي ذلك دون أن يلزم غيره بهذا، أو يعاتبه على ما سواه، فلا حرج في ذلك.
فأنت مثلا اهتماماتك علمية، لا حرج عليك ولا بأس.
وآخر اهتماماته جهادية، وثالث اهتماماته دعوية.
ونحن نعلم أن في الصحابة رضي الله عنهم أبا ذر الغفاري الذي لم يكن فوق الأرض ولا تحت السماء من ذي لهجة أصدق منه ولا أزهد ولا أورع في أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنه لم يكن من أهل الولايات والإدارة.
وفيهم خالد أبن الوليد الذي كان سيفا من سيف الله تعالى كما سماه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وحديثه في الصحيح في معركة مؤته
الذي كان قويا شجاعا مقداما باسلا ما هزم في معركة قط، ولكن خالد رضي الله عنه أنشغل بالحرب والجهاد فلم بتفرغ لنشر العلم والفتي في أصحاب محمد ومن بعدهم.
وفيهم أبن عباس رضي الله عنه الذي دعا له النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال:
(اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل).
وكان له قلب عقول ولسان سأؤول وكان من لمفتين ومن العلماء في أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) في ملأ منهم كابن الخطاب وعبد الله أبن مسعود ومعاذ أبن جبل.
وفي أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) من جمع الفضل والمجد من أطرافه كأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، قال النبي (صلى الله عليه وسلم) يوما لأصحابه:
(من أصبح منكم صائما ؟ قال أبو بكر أنا)
(قال من تصدق على مسكين ؟ قال أبو بكر أنا)
(قال من عاد مريضا ؟ قال أبو بكر أنا)
(قال من تبع منكم جنازة ؟ قال أبو بكر أنا)
(قال ما اجتمعن في امرأ إلا دخل الجنة).
وفيهم أمثال عمر أبن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
إذا لابد من الاعتدال مع مراعاة المواهب والتخصصات والملكات، المهم أن الإنسان يحرص على قدر من الاعتدال.
من الاعتدال، الاعتدال في بناء الشخصية
فيتوسط الإنسان بين الاندفاع وراء العاطفة الجياشة التي لا تنضبط أو التوقف بحجة العقل والدراسة والنظر، فإن الإنسان كل لا يتجزأ وله عقل وعاطفة ولولا وجود العاطفة لما استطاع الإنسان أن يتعامل مع الناس، ولا يأخذ ويعطي ولا يتوفر أمورهم ولا يحبهم أو يحبونه أو يتعامل معهم.
فلابد من الاعتدال في النظر بين العقل والعاطفة.
ومثله أيضا الاعتدال في تقييم الرجال فلا غلو ولا جفاء
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يربون لناس على ذلك، قال علي رضي الله عنه:
( إنه لعهد عهده إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه تهلك في فئتان، فئة غلت وفئة جفت).
وهكذا حدث فعلا، فإن ممن بعد علي رضي الله عنه من غلوا فيه حتى ادعوا له لا أقول الولاية والإمامة فهو كان أمير المؤمنين رضي الله عنه، لكن ادعوا له والعياذ بالله الألوهية وكان يقتلهم ويحرقهم بالنار، وهم يقولون له أنت أنت، يعني يزعمون له بالألوهية، وهو يقول:
لما رأيت الأمر أمرا منكرا….أججت ناري ودعوت قنبرا
فكان يحرقهم رضي الله عنه.
وهلكت فيه فئة أخرى هي التي فرطت في حقه وقصرت ونسبته إلى شيء مما لا يليق بقدره ومقامه رضي الله تعالى عنه.
إن المقياس كما أسلفت هو النص، وفي صحيح البخاري عن عمر رضي الله عنه قال:
(أقرؤنا أبُي وأقضانا علي).
فحكم أمير المؤمنين بأن اُبي هو لأقرأ وأن عليا هو الأقضى، يعني الأعلم بالقضاء، ثم قال عمر:
(وإنا لندع من قول أبُي) يعني نترك بعض ما يرويه لنا أبي أبن كعب رضي الله عنه وذلك أن أبي أبن كعب كان يقول:
(لا أدع شيئا سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وقد قال الله عز وجل:
(ما ننسخ من آية أو ننسها نأتي بخير منها أو مثلها…. الآية)
فأنظر إلى عمر كيف اعترف لأبي أنه هو لأقرأ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
ثم بين أننا مع ذلك نرد بعض قوله لا بالتشهي ولكن بالنص الشرعي، فقال إن ابي يقول كذا وقد قال الله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأتي بخير منها أو مثلها….الآية).
فقال نرد بعض ما قاله ابي بالقرآن الكريم وليس بمجرد التشهي.
إن الأمة التي تغلو في شخص لابد أن تقصر فيه، تعظمه حتى لا تتصور أنه يخطئ، فيقع منه الخطأ فتجحف في حقه، ولا ترى له قدرا ولا مكانا، وهناك أمة تبالغ في شأن شخص إهدارا لكرامته، فيبالغ آخرون في رفع اعتباره وقيمته ومنزلته.
إذا فالاعتدال والحق فضيلة بين رذيلتين.
إن من العتدال، الاعتدال في معاملة المرؤوسين
إن من الاعتدال التوسط في ملاحظة النفوس وطبائعها
من الاعتدال: الاعتدال بالنصيحة والتوجيه
فليس من الحكمة حرمان الناس من النصيحة والنقد البناء الهادف الذي يكون بالأسلوب الحكيم المناسب أبدا بحجة الخوف من ذلك.
وليس من الملائم تربية الناس على الصفاقة وقلة الأدب وغياب الخلق بحجة تربيتهم على قول كلمة الحق، أو عدم المجاملة في دين الله تعالى.
ومن الاعتدال أيضا، الاعتدال في تربية النفس.
وتربية الآخرين فلا ينبغي للإنسان أن ينشغل بنفسه عن غيره، ولا أن ينشغل بغيره عن نفسه، بل الاعتدال الاعتدال، وكما قيل:
يا أيها الرجل المعلم غيرها ….. هل لنفسك كان ذا التعليم
ابدأ بنفسك فأنهها عن غيها…... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى… بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ….. عار عليك إذا فعلت عظيم.
لفضيلة الشيخ سلمان ابن فهد العودة.